الموسوعة التاريخية

تاريخ مولدوفا

العصور القديمة والمستوطنات الأولى

كان إقليم مولدوفا الحديث مأهولًا بالبشر منذ عصور قديمة. وتدل الاكتشافات الأثرية على أن أول المستوطنات ظهرت هنا قبل أكثر من 10000 عام. تركت ثقافة ستارشيوا-كريش وثقافة كوكوتيني-تريپول الهامة، التي ازدهرت في مناطق مولدوفا الحديثة ورومانيا وأوكرانيا، أثرًا كبيرًا. انخرطت هذه المجتمعات القديمة في الزراعة وتربية الماشية، بالإضافة إلى الصيد وممارسة صيد الأسماك.

خلال فترة النوليت المتأخرة، تطورت الحرف اليدوية في منطقة مولدوفا وبدأت التمايز الاجتماعي. ظهرت أول المستوطنات المنظمة على نمط المدن المحصنة، مما يدل على هيكل اجتماعي معقد وتجارة متطورة. تركت هذه الثقافات وراءها آثار فريدة، تتضمن المنتجات الخزفية والأشياء الطقوسية والحُلى.

العصور القديمة وتأثير الإمبراطورية الرومانية

في الألفية الأولى قبل الميلاد، بدأت القبائل المختلفة من الشعوب البدائية تتسلل إلى منطقة مولدوفا الحديثة. ظهرت قبائل الفريجيين ثم تلتها الغوت والداك. دخلت هذه الشعوب في اتصال مع المستعمرات اليونانية على البحر الأسود، مما ساهم في التبادل الثقافي والتجاري. مع مرور الوقت، رسخت المستوطنات الغوتية والداقية في منطقة مولدوفا، التي تضمنت ثقافتها عناصر من التقاليد المحلية وتأثيرات الحضارة اليونانية.

في القرن الثاني قبل الميلاد وبداية القرن الأول الميلادي، بدأ الإقليم تدريجياً يتأثر بالإمبراطورية الرومانية. أنشأ الرومان معسكرات محصنة وطرقات، مما ساهم في دمج المنطقة في النظام الاقتصادي والسياسي للإمبراطورية. بعد غزو الإمبراطور الروماني تراجان لمملكة داكيا في عام 106 ميلادي، أصبحت منطقة مولدوفا الحديثة تحت السيطرة الرومانية لبعض الوقت، مما جلب معه عناصر من الثقافة الرومانية واللغة وتقنيات البناء.

العصور الوسطى وتأسيس دوقية مولدوفا

في عصر الهجرات الكبرى، تعرض الإقليم لهجمات متكررة من قبائل بدوية مختلفة. بدءًا من القرن الرابع، بدأ الغوطيون والهونيون والأفار والسلافيون في التسلل إلى هنا. بحلول نهاية القرن التاسع، امتد تأثير كييف روس تدريجياً إلى منطقة مولدوفا، وتبعه لاحقاً دوقية هاليش-فولين.

في القرن الرابع عشر، تأسست دوقية مولدوفا على الأراضي الواقعة بين الكاربات والدنيستر، ويعتبر فويفود دراغوش مؤسسها. عزز خلفه، فويفود بوغدان الأول، استقلال الدوقية عن المجر. يُعتبر بوغدان الأول مؤسس دوقية مولدوفا المستقلة، ومنذ حكمه بدأت التاريخ المستقل للبلاد.

ازدهار دوقية مولدوفا في عهد ستيفان الكبير

في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، حكم دوقية مولدوفا ستيفان الثالث الكبير، أحد أشهر وأحب الحكام في تاريخ البلاد. تمكن من تعزيز الدولة، توسيع أراضيها، ومواجهة التهديدات من الإمبراطورية العثمانية وبولندا والمجر بنجاح. قام ستيفان بإجراء سلسلة من الإصلاحات لتعزيز السلطة المركزية، كما بنى وقوى سلسلة من الحصون لحماية البلاد من الغزوات.

أسهم ستيفان الكبير أيضًا بشكل كبير في تطوير الثقافة والإيمان الأرثوذكسي. خلال حكمه، تم بناء العديد من الأديرة والكنائس، التي تُعتبر روائع من العمارة المولدفية. بفضل إنجازاته للدولة والشعب، حصل ستيفان على لقب "الكبير" وتم تقديسه من قبل الكنيسة الأرثوذكسية.

الهيمنة العثمانية والاستقلال الذاتي

بعد وفاة ستيفان الكبير في نهاية القرن الخامس عشر، واجهت دوقية مولدوفا ضغطًا متزايدًا من الإمبراطورية العثمانية. في بداية القرن السادس عشر، اعترفت الدوقية بالاعتماد الإقطاعي على السلطان، مما أدى إلى تقليص السيادة وفرض دفع الجزية. ومع ذلك، احتفظ حكام مولدوفا بدرجة كبيرة من الاستقلال، مما سمح لهم بإدارة الشؤون الداخلية والحفاظ على التقاليد الثقافية والدينية.

خلال القرون التالية، ظلت مولدوفا تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، على الرغم من أنها غالبًا ما احتفظت استقلالًا نسبيًا في الإدارة. على الرغم من الحروب والتهديدات المستمرة، نجحت الدوقية في الحفاظ على ثقافتها ولغتها وتقاليدها. في هذه الفترة، تطورت الفنون والأدب والحرف اليدوية، مما أوجد الأساس لتشكيل الهوية الوطنية المولدفية.

الإمبراطورية الروسية وتشكيل بيسارابيا

في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، بدأت الإمبراطورية العثمانية في فقدان نفوذها في المنطقة. نتيجة للحروب الروسية التركية، وقعت دوقية مولدوفا تحت السيطرة الروسية، وفي عام 1812، وفقًا لمعاهدة بوخارست، انتقلت الجزء الشرقي من الدوقية (الأرض الواقعة بين نهري برات ودنيستر) إلى روسيا، مما أسس مقاطعة جديدة – بيسارابيا.

تحت سيطرة الإمبراطورية الروسية، حصلت بيسارابيا على بعض الامتيازات، بما في ذلك الحق في استخدام اللغة المولدوفية والاستقلال الذاتي الجزئي. ومع ذلك، مع مرور الوقت، اشتدت سياسة الروسنة، مما أدى إلى تقليص حقوق المولدوفيين. استجابة لذلك، بدأت تحركات في المنطقة للدفاع عن الهوية الوطنية وإحياء التقاليد الثقافية.

الحرب العالمية الأولى والاندماج مع رومانيا

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى والثورة في روسيا، أعلنت بيسارابيا استقلالها ثم انضمت إلى رومانيا في عام 1918. ودعم هذا القرار السكان المحليين الذين كانوا يتطلعون إلى الوحدة مع رومانيا استنادًا إلى الثقافة واللغة المشتركة. ومع ذلك، أثار هذا الفعل توترًا في العلاقات مع روسيا السوفيتية، التي لم تعترف بضم بيسارابيا.

خلال الفترة بين الحربين، كانت بيسارابيا جزءًا من رومانيا، مما ساهم في إدماجها في النظام الاقتصادي والسياسي للبلاد. خلال هذه الفترة، تم اتخاذ خطوات لتطوير الزراعة والتعليم والبنية التحتية، على الرغم من أن الإقليم ظل زراعيًا في الغالب.

الحرب العالمية الثانية وتشكيل جمهورية مولدوفا السوفيتية الاشتراكية

في عام 1940، بعد توقيع ميثاق مولوتوف-ريبينترو، قدم الاتحاد السوفيتي إنذارًا لرومانيا وطالب باستعادة بيسارابيا. اضطرت رومانيا إلى التنازل، وتم ضم أراضي بيسارابيا إلى الاتحاد السوفيتي، لتشكل جمهورية مولدوفا السوفيتية الاشتراكية (MSSR).

خلال فترة ما بعد الحرب، تعرضت MSSR لعملية سوفيتية مكثفة، مما أدى إلى قمع الثقافة الوطنية وإدخال القيم السوفيتية. في الوقت نفسه، تم تطوير الصناعة، وبناء مؤسسات جديدة، وطرقات ومساكن. على الرغم من محاولات الروسنة، استمرت الثقافة المولدوفية ولغتها في الوجود والتطور، على الرغم من الرقابة الصارمة للسلطات السوفيتية.

الاستقلال ومولدوفا الحديثة

في أواخر الثمانينيات، بدأت عمليات إعادة الهيكلة والديمقراطية في الاتحاد السوفيتي، مما أدى إلى تنشيط الحركات الوطنية. في عام 1991، أعلنت مولدوفا استقلالها وانفصلت عن الاتحاد السوفيتي. واجهت البلاد في المرحلة الأولى من الاستقلال صعوبات اقتصادية وصراعات، بما في ذلك الصراع الإقليمي في ترانسنيستريا، والذي لا يزال دون حل حتى اليوم.

توجه مولدوفا الحديثة نحو الاندماج في الهياكل الأوروبية وتعزيز هويتها الوطنية. على الرغم من التحديات، تواصل البلاد السير نحو الإصلاحات الديمقراطية والتنمية الاقتصادية، محتفظةً بثقافتها الفريدة وتاريخها.

تاريخ مولدوفا هو رحلة طويلة من الحضارات القديمة إلى الدولة الحديثة، غنية بالأحداث والتحديات والإنجازات. وقد تركت أثرًا فريدًا في ثقافة وشعور الذات للشعب المولدوفي، الذي حافظ على أصالته وفخره بوطنه.

شارك:

Facebook Twitter LinkedIn WhatsApp Telegram Reddit email

تفاصيل أكثر: